السذاجة والذكاء العملي Previous item سذاجة تجارنا ومناهضيهم Next item ما الذي تغيّر؟.. فرط الأنانية

السذاجة والذكاء العملي

عندما كنا نتحدث عن التواصل مع بعضنا، سألني إن كنت استخدم برنامج “فايبر –Viber ” للمحادثة. أجبته: كلا لا استخدم فايبر لأنه إسرائيلي المنشأ؟ ألا تعرف ذلك.  صعق وأجاب «هل قلت إسرائيلي؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، استخدمه منذ ظهوره قبل سنوات”.

محادثتي تلك كانت مع صديق قديم من أشد الداعمين لقضية فلسطين؛ لكن بصمت ودون ضجيج. كانت تلك معلومة صغيرة عن برنامج على الانترنت يتيح الاتصالات المجانية لكنها معلومة سببت له كدراً وغماً، فماذا يمكننا أن نلوم هنا: نياته أم عدم معرفته (العبارة الملطفة جداً لمفردة: جهله).

لشعب مهووس بالنيات مثلنا، لم يتجاوز جدلنا بشأن استقبال الوفد الصهيوني الحديث عن النيات. من استقبل الوفد ومن أدان ذلك، كلهم يتحدثون عن النيات فقط لا أكثر.

هكذا فمن استقبل وشارك في الاستقبال، برر الأمر كله برده الى تلك الكلمات الأخاذة: “التسامح» و«التعددية” و”تعايش الأديان”. كلها أمور تتعلق بالنيات وبالطوية البحرينية اياها التي نكثر من التباهي بها. وكانت تلك علامة سذاجة تجار وطبقة تجارية يفترض أنها تعرف جيداً الأسئلة والتدقيق والبحث، أي أدوات البحث عن صفقة ناجحة ومهارات العمل التجاري وأصول المساومات والمفاوضات. لكن بعض أفرادها هنا يخفقون أيما إخفاق عندما لا يطرحون الأسئلة الضرورية: وفد تجاري يهودي؟ ماذا يريد؟ أي صفقات يبحثون عنها؟ لماذا الآن تحديداً؟ وهل التجارة والسلع لديها أديان ومذاهب؟ هل سنستقبل غداً وفدا تجارياً مسيحيا وآخر بوذياً مثلا وبعده وفد تجاري من الصابئة المندائية لترسيخ تعايش الأديان لدينا مثلاً؟ السذاجة تكمن في المبررات نفسها: “تعايش الأديان” ولوازمها الأخرى: التسامح والتعددية، للتسليم بصفاء نية التجار اليهود الأميركيين وسلامة طويتهم وأهدافهم وتالياً استقبال هذا الوفد بكل أريحية.

أما المناهضون الذين أعيد التأكيد على حقهم في اعلان الرفض (وأنا معهم) في كل ما جرى، فهم ليسوا سذجاً لمجرد إعلان «موقف ضروري» و”واجب أخلاقي وقومي” بل لأنهم اكتفوا به فقط، اكتفوا بتأكيد النوايا فقط ولم يذهبوا أبعد من ذلك.

لقد كرست جزءاً كبيراً من مقالي السابق بشأن الأمر، لجهود حملة المقاطعة الفلسطينية (BDS) ولمحة سريعة عن “الوضع/المأزق” الذي تعيشه اسرائيل منذ سنوات، لكي يتضح حجم البون الذي يفصلنا وخصوصاً مستقبلي الوفد (اصحاب منطق التسامح) والمناهضين الذي يكتفون فقط بإعلان موقف (إننا نرفض). بون شاسع من شأنه ان يدفعنا للتفكير في وسائل جديدة لمقاربة القضية الفلسطينية غير تلك التي اعتدناها: الفزعات الوقتية في لحظات الكوارث عندما يسيل الدم الفلسطيني من جراء عدوان اسرائيلي، نقوم بواجبنا ثم ننسى الأمر. أبسط ما يمكن أن تقترحه المتابعة والاطلاع الدقيق على تطورات القضية الفلسطينية هي أن وسائل دعمنا وماهيته بحاجة إلى تغيير بسيط؛ “أن تصبح دائمة بدلا من ان تكون موسمية”. وأن تكون نوعية ومؤثرة بدلاً من مساعدة وقتية مما اعتدنا عليه طيلة عقود. فعندما يصل الفلسطينيون الآن إلى جدول أعمال مختلف محوره بناء مؤسسات الدولة بالمعنى الأشمل للكلمة، مع الحاجة للضغط على إسرائيل لإجبارها على الانصياع، ونكتفي نحن وبقية العرب بالصراخ تعبيراً عن نوايانا الحسنة تجاههم، أو ننتظر كارثة تسيل فيها دماؤهم لنتحرك وندعمهم بشكل طارئ (إراحة لضمائرنا) فهذه (وليعذرني إخواني وأخواتي) في لغة السياسة “سذاجة”  لا تخدم سوى اسرائيل.

الدولة الفلسطينية المستقلة لن تأتي بقرار من اسرائيل او هدية منها، ولا من المجتمع الدولي ولا بقرار من الأمم المتحدة، بل إنها دولة يبنيها ويفرضها الفلسطينيون وليس بمحض القوة بالضرورة.

إن الدولة المستقلة القابلة للحياة، مؤسسات وشعب واقتصاد يملك القدرة على النمو والحياة، فالبحث عن وسائل جديدة للدعم يتعين أن يكون ضمن هذا الفهم وبشكل مبادرات وليس رد فعل عند الكوارث فقط.

هل نحتاج لإعادة تأكيد نيتنا ومواقفنا كلما طرأ أمر أو جدل يتعلق بفلسطين؟ أو أن تستقبل هواتفنا بين حين وآخر صوراً بالأسود والأبيض لبعض المتطوعين البحرينيين في حرب 1948؟

بدلا من الاكتفاء بالتبريرات غير المقنعة، بإمكان تجار البحرين من الذين استقبلوا الوفد الصهيوني ومن لم يحضر أيضاً، أن يفعلوا الكثير وضمن قوانين السوق والاقتصاد الحر؛ استيراد المنتجات الفلسطينية مثلا. الزيتون الفلسطيني والبرتقال الفلسطيني هما الأجود في العالم، وبالإمكان إضافة موز أريحا وفلفل غزة. ثمة الكثير لاستيراده دعما لاقتصاد فلسطين الذي يواجه بحرب اسرائيلية لا تتوقف من الضرائب وإجراءات الخنق. المهم ان يتم ذلك بعيدا عن تحايل الاسرائيليين وألاعيبهم وبالتنسيق مع السلطة الفلسطينية. من الممكن تأسيس بنوك مشتركة، والأهم أن بالإمكان دعم حركة المقاطعة الفلسطينية (BDS) التي باتت تمثل الخطر الاستراتيجي على اسرائيل، والتنسيق معها لتوسيع نطاق المقاطعة ليشمل من يدعم اسرائيل.

لقد ضربت مثالا بسيطاً، وبإمكان النيات الحسنة والتخطيط والخيال الخلاق ان يتوصل للكثير. فالدعم المطلوب ليس بالضرورة ان يكون كبيراً ومرهقاً، بل في حدود الممكن لكن بشكل مستدام وعلى قاعدة المنفعة المتبادلة.

آن الأوان لكي نغادر منطقة «النوايا» هذه الى منطقة العمل الهادئ والصبور، ذي المدى الطويل، البعيد عن الضجيج والتباهي. العمل المثابر والهادئ الذي لا يجيده سوى أناس يتمتعون بذكاء عملي.

لقد اقترحت في نهاية مقالي السابق على كلا الطرفين أن يبادرا إلى العمل معاً، طالما أنهما أعادا تأكيد نواياهما حيال الالتزام بدعم قضية اشقائنا الفلسطينيين. أبسط ما يمكن للتجار أنفسهم القيام به وبشكل فوري للرد على استغفال الصهاينة لهم؛ هو دعوة وفد فلسطيني من التجار لتوقيع اتفاقيات معهم لاستيراد زيت الزيتون الفلسطيني إلى البحرين مثلاً، على غرار المبادرة التي قامت بها الحملة البحرينية لدعم فلسطين أثناء اجتياح لبنان العام 1982 باستيراد زيت الزيتون الفلسطيني لفترة قبل أن ينقطع لأسباب غير معروفة؛ لكنها حتما غير مبررة. وليرقص الفلسطينيون دبكة فلسطينية في حفل عشاء وفي باب البحرين أسفل شعار مملكة البحرين أعلى قوس باب البحرين. هذا هو الرد العاجل الذي سيبطل كل مفاعيل زيارة الوفد الصهيوني ويرسل رسالة قوية لمن خطط لتلك الزيارة؛ أن تجار البحرين وأهلها مع فلسطين، كانوا ومازالوا وسيبقون معها. وبإمكان مبادرة كهذه أن تحرك الخيال لتغيير أساليب وطرق دعمنا الأشقاء الفلسطينيين من طارئ وموسمي إلى مستدام.