محمد فاضل العبيدلي*
في العام 1988 أهداني صديق شريط كاسيت يضم ثلاث مقطوعات موسيقية فقط، الأولى على البيانو واثنتين تعزفهما الاوركسترا. يصعب وصف شعور الصدمة الذي أحسست به وقتها لحظة أن ادرت الشريط في المسجل. فعلى الرغم من رداءة التسجيل كانت تلك المقطوعات الثلاثة واحدة من صدمات موسيقية قليلة عظيمة الأثر يمكن أن يتعرض لها المرء في حياته.
كانت الموسيقى مغايرة عن الدارج والسائد، غير مألوفة لكنها تفيض بجماليات آسرة تدفع السامع إلى إعادة المقطوعة أكثر من مرة، لكأنما يحاول اكتشاف أسرار مخبأة في هذه الموسيقي، كنت أريد أن احفظ الموسيقى بجملها ونقلاتها وايقاعها الخفي. زاد الأمر غموضاً ما نطق به صديقي وهو يهديني الشريط: “موسيقى من تأليف مجيد مرهون”. على الفور تداعت إلى ذهني تلك اللحظة الغائرة في الذاكرة عندما وقعت عيناي على صورة له في فيلا صغيرة بشارع الدكتور السبكي بمنطقة الدقي في القاهرة، الفيلا التي شغلها الاتحاد الوطني لطلبة البحرين فرع القاهرة.
كان ذاك في نوفمبر من العام 1975، وكنت قد وصلت قبل يومين للقاهرة للدراسة. في صالة صغيرة تتوسط الفيلا، كانت صورته تطل فوق قوس باب غرفة صغيرة. وجه أسمر حليق ينظر جانباً وقميص أبيض وربطة فراشة حمراء. وأسفل الصورة مناشدة غاضبة: “اطلقوا سراح مجيد مرهون”.
كان علي الانتظار بضع سنوات أخرى. جاء اللقاء بعد أيام قليلة من إطلاق سراحه في إبريل 1990 وهو يحمل لقبا محببا لنفسه “مانديلا البحرين”. وللصدفة كان يستقبل المهنئين في بيت أخيه الواقع على مقربة من بيتي في ذلك الوقت. قبل ان اذهب اليه فكرت ملياً: هل استمع الى مقطوعاته الثلاث تلك؟ لقد ألف واحدة منها قبل دخوله السجن عام 1968 وقام بتدوينها في أيامه الأولى في السجن على ورق علبة صابون كي لا ينساها، أما الاثنتان الاخريان فقد ألفهما وهو في السجن. ألفهما في ذهنه أولا قبل أن يتمكن من الحصول على قطعة من الورق المقوى ليقوم بتدوين اللحن عليها. أيقنت أنه لم يستمع للمقطوعات الثلاث تلك. لقد تم تهريب تلك المقطوعات الثلاث من السجن في السنوات الأولى للثمانينات ووصلت إلى السويد أولاً ثم إلى المانيا الشرقية (وقتذاك) حيث عزفتها فرقة راديو برلين السيمفونية وتم تسجيلها على اسطوانة بلاستيك وزعت الاف النسخ منها في مهرجان الشباب العالمي في موسكو عام 1985. هكذا قررت ان احمل له ذلك الشريط.
كان الوقت ظهراً عندما دخلت عليه جالسا في الصالون الخالي، كان ودوداً رغم حذر ظاهر في ابتسامته ووجهه وعناقه. بعد “الحمد لله على السلامة”، أخرجت الشريط وكان علي أن اصرخ بأعلى صوتي: “هل استمعت إلى موسيقاك؟”. قلب الشريط في يده وأجاب: “لا لم اسمعها”. وعندما دار الشريط في جهاز التسجيل الكبير، رفع الصوت الى أعلى درجة تقريباً وأظن أن الحي كله كان يستمع ايضا، فلقد كان سمعه ضعيفا جداً بل معدوم في إحدى أذنيه (وجه شبه آخر بمانديلا غير سمرة الوجه واستدارته).
لم نصبح اصدقاء على الفور، لكن ذلك الشريط سيصبح هو مفتاح صداقتنا اللاحقة التي امتدت حتى وفاته في 23 فبراير 2010. لقد كانت الموسيقى هي التي ربطتني به وجاء التاريخ وكل شيء آخر لاحقاً للموسيقى. ينظر الكثيرون حتى اصدقاؤه وجل المثقفين في البحرين لمجيد مرهون باعتباره مناضلاً صلباً واستثنائياً وهذا صحيح تماماً، لكن نضال مجيد وحس العدالة الاجتماعية لديه ليس إمتيازه الوحيد بل الموسيقى. القليلين أدركوا قيمة موسيقاه وقيمته مؤلفاً موسيقياً.
لم تتح الفرصة للجمهور لكي يستمع الى موسيقى مجيد مرهون إلا في مناسبات قليلة عندما عزفت بعضاً منها فرق موسيقية زائرة سواء في مهرجان البحرين للموسيقى او في حفل تكريمه. عدا ذلك، فان مقطوعاته لا تذاع بأي شكل وهو أمر يعود في جزء منه الى طبيعة عمل الإذاعات العربية التي لا تولي الموسيقى أي عناية حتى بعد انشاء الإذاعات المتخصصة، إضافة الى ندرة وجود النقاد الموسيقيين القادرين على تصنيف المؤلفات الموسيقية المكتوبة على المقامات الغربية. النتيجة النهائية هي ان الجمهور يجهل تماما وجود مؤلف مثل مجيد مرهون أو اعمال موسيقية خارج المألوف الذي اعتاد عليه من اذاعة بلاده ومن المحطات الفضائية العربية.
ساهم في هذا ايضا التواضع الذي ميز مجيد طيلة حياته وجعله قليل الظهور في الحياة العامة. فلقد ولد لأسرة فقيرة في حي كان يطلق عليه “العدامة” وهو حي كان قائما ما بين منطقة “الحورة” أو “حالة بن أنس” حسب اسمها الأصلي وبين منطقة “القضيبية” مصيف أهل البحرين الشهير بنخيلها وينابيع المياه العذبة شرقي العاصمة المنامة. ورغم تفوقه في المدرسة، فقد التحق بشركة النفط بابكو وتعلم في مدرستها المهنية وعمل فيها كهربائياً. لقد اسهمت هذه الخلفية كلها في صوغ وبلورة حس العدالة الاجتماعية لديه وهو ما دفعه للانخراط في صفوف اليسار في شبابه المبكر قبل أن يقوم بعد بضع سنوات بالعملية التي تسببت في سجنه، عندما تم تكليفه بوضع عبوة ناسفة في سيارة مسؤول عربي يعمل في الاستخبارات. قام بالعملية على اتم وجه في مارس 1966 في الذكرى الأولى لانتفاضة مارس 1965 لكن المسؤول الأمني لم يمت بل أصيب بالشلل. ولم يتسنَ لسلطات الحماية البريطانية القبض عليه إلا عام 1968 نتيجة وشاية.
بعد 37 عاما من تلك العملية، أسر لي في حوار صحافي أجريته معه عام 2003 لوكالة فرانس برس في البحرين، بأنه قام بتخفيف الشحنة الناسفة في العبوة التي زرعها في سيارة ذلك المسؤول الأمني. وعندما سألته عن السبب وعما اذا كان قد عاش صراعا في نفسه بين الفنان والسياسي، قال بشيء من مكابرة: “انا لست سياسيا، انا مناضل والنضال ليس سياسة بالضرورة”. مرت بضع سنوات أخرى قبل أن يفاجئني في لقاء ضمني واياه: “لقد كنت على حق” وعندما داعبته بالقول ” أنا دائما على حق” ابتسم من طرف شفتيه وواصل حديثه: ” اعتقد أن ما قلته لي قبل سنوات صحيح.. الفنان في داخلي هو الذي انتصر لحظة أن قمت بتخفيف الشحنة الناسفة قبل أكثر من 30 عاماً..”. بدا لي وكأنه أراد أن يزيح هماً كبته في نفسه طيلة عقود. ومن المؤكد أن السؤال في تلك المقابلة مسَ هواجس ومشاعر قديمة اختزنها في عقله منذ زمن بعيد، واذ كنا في العام 2008، كان مجيد في الثالثة والستين من عمره وبدا لي انه يريد ان يتخفف من بعض ما في صدره ونفسه من تاريخ شخصي طويل قضى الشطر الاكبر منه في السجن. هل كان ذلك مراجعة متأخرة انهت مكابرة ظلت قائمة منذ 42 عاماً؟ ليس هذا هو ما تأخر فقط بالنسبة لمجيد عبدالحميد مرهون، بل حتى تقديره موسيقيا وفناناً.
في الثمانينات تلك، حملت ذلك الشريط الى موسيقي بحريني يحمل شهادة الماجستير في الموسيقى ويدير وقتذاك معهدا للموسيقى في المنامة. أدار الشريط في جهاز التسجيل وبدا قليل التأثر وهو يستمع الى مقطوعة البيانو المسماة “حبيبتي” قبل أن يعلق: “مكتوبة للأصابع الخمسة”. واصل الاستماع إلى “أزميرالدا” و”نوستالجيا“، همهم وهو يستمع لكنه لم يتفاعل كثيرا، علق بابتسامة: “من ربعكم المناضلين”، ضحكنا لهذه الجملة التي تتداول لدينا باعتبارها شفرة سخرية.
لكن في العام 2015، قال لي هذا الموسيقي وهو مذهول: “انتم لا تعرفون قيمة مجيد مرهون الحقيقية، لا أحد يعرف قيمته. كنت احسب أنه مؤلف مثل باقي المؤلفين، لكنني ذهلت عندما وقعت عيناي على نوتات أعماله”. أضاف: “دعني أشرح لك.. في العادة يكتب المؤلفون الجملة الموسيقية ثم ينتقلون الى الجملة الاخرى وهكذا. لاحقاً يأتي الموزع لكي يوزع الجمل على الآلات الموسيقية. مجيد كان يكتب الجملة أعلى الورقة ومن ثم يوزعها على الآلات في السطور اللاحقة بحيث أن الصفحة الواحدة تكون مكرسة لجملة موسيقية واحدة. هذه طريقة كبار المؤلفين، بيتهوفن، موزارت، تشايكوفسكي والكبار الآخرين. كل هذا ومجيد صاحبك هذا تعلم الموسيقى بنفسه وألف سيمفونيتين في السجن ومئات المقطوعات الأخرى.. لا أدري ما إذا أقول أو أفعل.. لكن من المؤكد أنني أريد أن أضرب رأسي في الجدار.. أيكون بيننا مؤلف موسيقي على هذا المستوى ولا أحد يعرفه ولا أحد يعزف أعماله”.
*نشر في موقع “مصراوي” بتاريخ 17 اغسطس 2016 بطلب من الموقع بمناسبة ذكرى ميلاد الموسيقار الراحل مجيد مرهون. يعتبر موقع “مصراوي” اقدم واكبر موقع صحافي على الانترنت في مصر.
رابط المقال الاصلي: https://bit.ly/3ybCJ2H