تلك الأيام Previous item مأزق اسرائيل العميق Next item مجيد مرهون.. كيف تكون...

تلك الأيام

كان ذاك في شتاء عام 1982 وعندما أضيف (هنا بالضبط) وأشطب مفردات توضيح مثل هذه (من القرن الماضي)، فأنا لا أنازع إحساساً غير مرغوب بتقدم الزمن، بل إحساسُ الوطأة التي لا تحتمل لذكرى حميمة.

في ذلك المساء البعيد، جلس ثلاثة أصدقاء شبان في العشرينات من أعمارهم في مقهى صغير بالمنامة: خالد البسام، عبدالمطلب الصيرفي ومحمد فاضل. أخذنا أحاديثنا من مكاتبنا إلى المقهى: هل قرأت ذلك المقال؟ الأسلوب لافت وجذاب… مقدمة تحقيقك المنشور أمس كانت جميلة لكنها كانت بحاجة إلى مونتاج… أعجبني جداً ذلك العنوان… “حتى الحمام يعض”… أكره أن أبدأ الفقرة بـ “إن” يقول خالد ويتلقى الجواب سريعاً: وأخواتها… وبنات عمها.

تتداعى قصص مسلية من طفولتنا في ستينات القرن الماضي، عن المدارس وامتحانات القبول وقتها: مد اليد فوق الرأس حتى تصل الأذن. المدرسون وطرائفهم، فيلم «عنتر وعبلة» المتكرر أول أسبوع من كل شهر في سينما الزياني. شقاوة المراهقين الذين يفتعلون شجاراً في مقاعد “بو روبية” وتحت ستار الهرج والمرج يقفزون إلى مقاعد “بو روبيتين”. جمهور فريق الترسانة المتحفز للشجار دوماً، فسيفساء فريج الفاضل، حالة “بو ماهر” وابنها الدكتور آدم وطرائف مجانين المحرق، فريج «المخارقة» وقصصه وعائلاته وطرائف أشقيائه المشهورين. تتناثر القصص والحكايات وتتداعى في هذيان آسرٍ، أمعنا في الحكايات والقصص وما أن وصل الهذيان الآسر مداه، قال خالد في لحظة حماسة نادرة وعيناه تلمعان ببريق: “والله هذه قصص تستحق أن تكتب”. اتخذ قراره بالإبحار في الذاكرة، فكانت أولى الثمار حلقات في مجلة “بانوراما الخليج” جمعها لاحقاً في باكورة كتبه: “تلك الأيام”.

بالتأكيد لم تكن مسامرات ذلك اللقاء سوى شرارة أيقظت رغبة دفينة في نفس خالد وتفكيره حفزتها سعة اطلاع وشغف بالقراءة منذ صباه. وإذ كنا في العام 1982، كان قد مضى على اشتغاله بالصحافة نحو عشر سنوات. كان خالد وعبدالمطلب يسبقاني زمنياً في خوض غمار المهنة. فخالد بدأ أولى خطواته في ميدانها مذ كان طالباً في المرحلة الثانوية قبل أن يتوجه للقاهرة في 1974 للدراسة، أما عبدالمطلب فقد عمل بالصحافة الكويتية أثناء دراسته في جامعة الكويت في السبعينات أيضاً فيما بدايتي كانت أواخر العام 1980. وقتذاك كانت تجربة الصحافة قد بدأت تصل إلى مداها الأقصى لدى الراحل العزيز ولم تفعل تلك المسامرات سوى أن أضاءت جواباً أمامه: “آن الأوان لمسار جديد”.

الآن فقط، عندما تتداعى إلى ذهني جلسات كتابة وإعداد المجلات الحائطية التي جمعتنا في الأعوام 1976 و1977 في القاهرة، فإن العمل الذي جمعنا لاحقاً في مطلع ثمانينات القرن الماضي في البحرين، يبدو وكأنه استعادة لمصير تحدد مسبقاً. ليس العمل في مكان واحد هو ما سيضيف معنى مغايراً للصداقة، بل الشغف بالمهنة وبالأصح بالكتابة. لكن شغف خالد بالذاكرة حمله لتجاوز النوستالجيا التي طبعت النتاج الصحافي والإعلامي والثقافي أيضاً منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، لأنه أخلص لشغفه إلى الحدود القصوى. ومن زيارة أولى لمكتب الهند في 1984 في بريطانيا، أصبح لديه جدول ثابت لزيارات ستتكرر فيما سيلي من السنوات للقاهرة ولندن وغيرها من العواصم بحثاً عن الوثائق. وما بين جولات العواصم، زيارات متكررة وواجبة لتلك البلدة النجدية الشهيرة: “عنيزة”. فهناك آل البسام وكبارهم وحفظة التاريخ الشفاهي الذي سيستنطقه خالد بدأب والمراسلات المحفوظة ومكتبات البيوت لعائلة نجدية عريقة وممتدة عرفت أكثر ما عرفت بالثقافة والتهذيب الجم التي غدت صفات جينية في آل البسام. ولأن البحث عن الوثائق وفيها إبحارٌ في الذاكرة، فإن سرد التاريخ لا يحتاج للعرض فحسب، بل لابد من راوٍ يملك ذائقة. هنا أسعفت خالد خبرة الصحافة وشغف قراءة قديم ومتأصل وتجربة حياتية قادته من بين ما قادته إلى لندن لدراسة اللغة الإنجليزية وبعدها باريس لدراسة اللغة الفرنسية. وعدا كتبه التي نبش فيها تاريخاً غير متداول، فإن مزيج الشغف والصحافة والذاكرة قاده إلى الرواية: “مدرس ظفار” و “لا يوجد مصور في عنيزة”.

عندما ترثي عزيزاً كتابةً أو حتى بالصمت، فأنت ترثي حضوره في عمرك، الزمن الذي شغله في حياتك. الزمن الذي كنتما فيه تتقاسمان كل شيء حميم وغير حميم: من شغف الكتابة والبحث وتقلبات الحياة والناس إلى إنسانية الصحبة والأخوة، هنا تتبدى الوطأة الثقيلة لرحيل خالد: صداقة امتدت 40 عاماً، مثلي في هذا ذلك النفر من أصدقاء الدراسة في مصر، أكثر المفجوعين برحيله، نفرٌ من جيل هو “البحرين كلها” ولعلي أضيف: “في أجمل صورها”.

في جلسة المسامرات تلك، اتخذ خالد قراره فارتسمت مصائرنا: أبحر في مشروعه بحثاً في الذاكرة والتاريخ، وواصل عبدالمطلب عمله اللامع في الصحافة الاقتصادية مراسلاً لصحف ومجلات اقتصادية عربية وتوالت خيباته الاجتماعية واحدة تلو الأخرى دونما رحمة. واصلت أنا عملي في الصحافة، لكن مصائرنا ليست بأيدينا. فما أن حلت الألفية الثالثة، انتهى الحال بعبدالمطلب وحيداً شبه مشلول دون عمل ولا مال ولا شيء وسط نسيان كامل. نفر قليل من الأصدقاء يتذكرونه، أما ما بات يعرف بالجسم الصحافي، فهو لا يعرف ولا يذكر ولا يريد أن يتذكر واحداً من ألمع الصحافيين البحرينيين من جيل السبعينات، الصحافي الذي تمت محاربته في رزقه وكأنه شيطان رجيم وليس صحافياً بحرينياً بارعاً ومحترفاً مازال يعيش في غياهب التجاهل والتناسي بعد أن صعد على أكتافه كثيرون. ها نحن نصدم من جديد برحيل خالد المباغت في أوج عطائه، وها أنا أرثيه بعيداً في غربة صارت لي وطناً ولم يبقَ لنا سوى ذكريات وطيوف أصحابها.. ألا يا صديقي، رحمة الله عليك ورضوانه ولروحك الباقية فينا السلام والمحبة.