محمد فاضل العبيدلي
في سبتمبر من العام 2004، أسقط البرلمان التركي الذي كانت تهيمن عليه غالبية من حزب العدالة والتنمية مسودة قانون يجرم الزنا. وفي مطلع الشهر الماضي، اجاز البرلمان الذي تهيمن عليه نفس الغالبية قانونا لتشديد الرقابة على الانترنت وصف بأنه هجوم على حرية التعبير في تركيا. بين هذين الحدثين 11 عاماً لتجربة فريدة لحزب اسلامي في الحكم، لكن في هذه السنوات الطويلة ما يستدعي القلق ايضاً.
في العام 2004، كان قد مضى أقل من عام على تولي رجب طيب اردوغان منصب رئيس الوزراء، وكان الوقت هو وقت تأهيل تركيا لشروط العضوية في الاتحاد الاوروبي وكان صرف النظر عن قانون تجريم الزنا مجرد خطوة صغيرة في جهود حثيثة حولت تركيا الى ورشة كبرى لتأهليها لمقاييس عضوية الاتحاد الاوروبي. لقد كان اسقاط ذلك القانون، خطوة خلبت الباب الغرب في وقت كان كل ما يمت لمفردة “اسلامي” بصلة يقابل بشكوك عميقة. لكن في العالم العربي، لم تكن تلك الخطوة مقبولة او مبررة لحزب اسلامي لأن الاخلاق هي حجر الزاوية في خطاب الأحزاب والجماعات الاسلامية في البلدان العربية، حتىالآن على الأقل.
سيكون من قبيل المبالغة وصف تلك الخطوة في 2004 على انها لمسة ليبرالية تشربها الاسلاميون الاتراك، بل هي اقرب لخطوة تنم عن ذكاء عملي. لكن لم يمض عام واحد الا وظهر مصطلح جديد لوصف التغييرات التي قادها أردوغان وحزبه حيث بدأ الكثيرون يصفون تلك التغييرات بانها “ثورة صامتة”. ولاحقا، تم وصف ما تقوم به حكومة اردوغان بانه “الثورة الثانية” في تاريخ تركيا بعد ثورة كمال اتاتورك في عشرينات القرن الماضي. وما أن حل العام2007، إلا وتعالت الاصوات التي تطالب الاسلاميين العرب خصوصا الإخوان المسلمين والسلفيين بالإقتداء بتجربة إخوانهم الاتراك.
ما سر الإعجاب تلك التجربة؟ امران اثنان، الاول هو ان الاسلاميين الاتراك بزعامة اردوغان تركوا جانباً كل الموضوعات التي تثير الانقسام في المجتمع التركي خصوصا تلك المتعلقة بالهوية والأخلاق. الثاني هو انهم ركزوا جهدهم على حل مشاكل الاقتصاد التركي المزمنة، وفي هذا الميدان حققوا اكثر انجازاتهم المثيرة للإعجاب فتمكنوا من خفض نسبة التضخم وفتحوا الباب للاستثمارات الأجنبية وهو ما قاد الى تحقيق إنجازات كبرى. وقبل شهور قليلة، تحول الاقتصاد التركي من اقتصاد مثقل بالديون التي تستهلك جزءاً كبيراً من الناتج القومي الى دولة دائنة وتوقفت عن طلب الديون من صندوق النقد الدولي. أبعد من هذا، فإن تركيا قد تنضم الى قائمة الدول ذات اقتصاديات التريليون دولار هذا العام ومن المرجح أن تصبح من اقتصادات “2 تريليون دولار” في العام 2030 حسب الكاتب التركي افشين مولاي في مقال له نشرته صحيفة الشرق الاوسط (مايو 2013) بعنوان “دروس تركية للقاهرة”. هذه الانجازات بمجموعها شكلت ما سيعرف بـ”النموذج التركي”.
لكن هذه ليست نهاية قصة “النموذج التركي”، ففي مقابل هذا السجل الاقتصادي المثير للإعجاب، سجل آخر مثير القلق. فتركيا تتربع على قائمة اسوأ الدول في سجن الصحافيين جنباً الى جنب مع الصين وايران حسب تقارير منظمات صحافية دولية. فالحكومة صاحبة السجل الإقتصادي المبهر هي نفسها التي سجنت 49 صحافياً في 2012 ويقبع في سجونها 40 صحافيا حتى نهاية 2013.
لكن هذا يبدو مثل رأس جبل الجليد لقصة غير متداولة، قصة جهود قديمة وحثيثة للسيطرة على مفاصل جهاز الدولة. سجن الصحافيين قد يقدم شيئاً منا لتفسير، لكن هذه الجهود مضت الى شوط أبعد كثيراً. فحكومة أردوغان غارقة تماما هذه الأيام في معارك سياسية تدور حول مساعيها للسيطرة – بفعل تعديلات تشريعية – على جهاز القضاء وكبح حرية التعبير. وحسب الصحافي التركي محمد بارانسو، فإن مساعي حكومة أردوغان للسيطرة على وكالات الاستخبارات “صنعت نظاما شبيها بأنظمة حزب البعث في العراق وسوريا”. وفي مقال له نشر في صحيفة الحياة (29 يناير 2013) بعنوان “أهلا بكم الى دولة مخابراتستان”، يخلص بارانسو الى أن وكالات الاستخبارات التركية القوية أصبحت فوق القانون وفوق رقابة كل المؤسسات التركية وهي وكيلة مصالح الحزب الحاكم وأردوغان شخصياً”.
هل يراهن أردوغان على ان الازدهار الاقتصادي سيقنع الاتراك بغض الطرف عن الاستبداد؟ حسناً، لقد كشفت صدامات ساحة “تقسيم” وتبعاتها السياسية في مايو 2013، عن نوازع استبدادية، لكن هذا المزيج من الازدهار الاقتصادي ونوازع الاستبداد السياسي هو تحدٍ حقيقي لأردوغان والاسلاميين الأتراك لأنه يعرض نجاحات النموذج التركي لمخاطر حقيقية. واذا كان أردوغان وحزبه سيخسرون الانتخابات المقبلة، فإن هذه الخسارة لن تكون مجرد خسارة للسلطة بل فشلاً لنموذجه في الحكم على الأرجح وهو فشل سيتعدى حدود تركيا.
وبينما يلتزم اسلاميو تونس الحذر في المرحلة الانتقالية التي تمر بها تونس، فان الاخوان المسلمين المصريين اثبتوا فشلاً ذريعاً في الحكم، فمساعيهم المحمومة للهيمنة على مفاصل الدولة ألبت عليهم المصريين في ثورة غير مسبوقة في 30 يونيو 2013. الاسلاميون المغاربة من جهتهم مازالوا دون انجازات واضحة. من تبقى؟ الاسلاميون الذين يحكمون السودان منذ العام 1989 ليسوا ضمن المقارنة، فهؤلاء ليس لديهم سوى وصفات خراب.
إن مواطن ضعف النموذج التركي تدفع المرء للاستنتاج بأن الاسلاميين مازالوا غير قادرين على تقديم نموذج ناجح في الحكم والتنمية، والكلمةالمفتاح هنا هي: “نوازع الاستبداد”.
ان نموذج أروغان يظهر بوضوح ان الميل للليبرالية في إدارة الاقتصاد لا يقابله بالضرورة ميل مماثل لليبرالية في إدارة السياسة، وعليه فمن الخطورة بمكان تقديم وصفة نجاح في الاقتصاد ووصفة استبداد في السياسة. هنا بالضبط يتضح، أن المخاطر المحيطة بهذا النموذج كامنة بداخله أساساً وليست في أي مكان آخر.
نشر في “Gulf news”، مارس 2014.
الرابط الاصلي للمقال: http://gulfnews.com/opinion/thinkers/turkey-a-dangerous-recipe-of-success-1.1303751