محمد فاضل*
تزدان القاهرة بالضواحي الجميلة ذات الشوارع المنسقة بالأشجار، فهذه المدينة تنمو في أطرافها منذ عقود طويلة وطويلة جداً. لكن قلب المدينة، يشير دون ريب الى مدينة مترهلة وعجوز. قلب المدينة الذي بناه المهندسون الفرنسيون الذين جلبهم الخديوي اسماعيل في القرن التاسع عشر، فصمموا هذا القلب وبنوا الجادات الفرنسية والشوارع المتفرعة منها والعمارات التي تستدق مقدماتها من طرف الجادة وتتوسع مبتعدةً عنها.
لكن في قلب المدينة المترهل ينبض قلب مصر منذ 25 يناير 2011، قد تكون مفارقة هذه التي تجمع البشر والمكان في هندسة بصرية تقترح مشهداً سوريالياً بإلحاح متزايد. فذلك القلب المترهل حقن رغماً عنه بدم جديد منذ ذلك اليوم، لكن القلب مازال يعاند قليلا في تقبل جرعات هذا الدم الجديد.
لطالما كانت تلك هي الحكاية، المكان والبشر. لطالما كان وسط المدينة (البلد) جميلاً بجاداته وشوارعه المنسقة وعماراته المبنية على الطراز الفرنسي، لكن اكتظاظ البشر المتزايد كان يشوهه قليلاً. فوسط البلد مثل مدينته المكتظة بالملايين من البشر والسيارات، لم يعد يحتمل منذ زمن بعيد فوضى حركة البشر واكتظاظهم الذي يفوق الاحتمال وهم يتزاحمون في شوارعه في فوضى. المباني هرمة وكالحة، مصفرة او يكسوها لون رمادي يبعث على الكآبة. رغم هذا، فان هذا المكان الهرم تنطق جنباته وشوارعه الواسعة والضيقة بالتاريخ وبالكثير منه. لربما ان المفارقة تكمن هنا.
فأولئك الذين احتشدوا في 25 يناير 2011 في ميدان التحرير القريب وعادوا للاحتشاد في نوفمبر 2012، هم الجيل الاصغر بل الأصغر جداً من المصريين، أما المصائر والمآلات والحلول التوفيقية والتسويات فقد صنعها ويصنعها الكبار.
منذ لقائي الاول بهذه المدينة في يوم خريفي بعيد غائر في الذاكرة، ووجوه أهلها متعبة ومثقلة. ليس في هذا سر ولا كشف، لكن الوجوه تبدو متعبة ومثقلة على نحو متزايد كلما تجدد اللقاء. وأن تفصل بين لقائي الأول وسنوات خمس متصلة في أحضانها الدافئة وبين يومنا هذا 37 عاماً، فإن هذا قد يبعث على صدمة تفوق الإحتمال إلا قليلاً. لم أرى وجوه أهلها مثقلة ومتعبة مثلما رأيتها آخر مرة بعد يومين فقط من معركة شارع محمد محمود الأخيرة. وما بين دردشات المثقفين وتكهنات الصحافيين وبعض من يحسن ربط أطراف أحجيات السياسة، وصحف وتلفزيونات لاهثة وثرثرات سائقي الأجرة، وبين وجوه المحتشدين في ميدان التحرير فاصل تتأرجح على حوافه مصر بأسرها.
في ميدان التحرير، تبدو الوجوه حيوية ونابضة تفيض بالتوتر وبشيء غير قليل من عناد. لن تغيب الابتسامات أيضاً. الجيل الأصغر من المصريين، شبان صغار قال عنهم متداخل مصري قبل شهور في برنامج حواري بثته “بي بي سي”: “لسه بياخذوا مصروفهم من أبهاتهم[1]“. تنويعة أخرى لإستصغار شأن هؤلاء الشبان الثائرين لم تكن الأولى على أية حال، فعندما احتشدوا في 25 يناير 2011، قيل انهم “شوية عيال”. ربما يتعين أن نمسك هذا الخيط جيداً. فحسب الصحافي والشاعر المصري سيد محمود فان الثورة “هي ثورة الفئة الوسطى” لا بالمعنى العمري فحسب بل بالمعنى الإجتماعي الأشمل. يبدو التوصيف منطبقاً بعض الشيء وبأكثر من معنى. وقبله كتب آخرون عن “التسونامي الشبابي[2]“. ففي الميدان، يحتشد جيل جديد من اولئك الذين يتحدثون الانجليزية بطلاقة تخلو من أي لكنة. خريجو مدارس خاصة أو طلاباً جامعيين تخرجوا من جامعات أجنبية، تجد في تصرفاتهم كل ما يذكرك بشبان الفئة الوسطى المتمردين في مدن الغرب. أطباء متطوعون، صحافيون ومهنيون شبان، لكن غالب الوجوه هي من ذلك النوع الذي لا يتغير في مصر: مثقلة ومتعبة يتآكل الفقر ملامحها وملابسها. هل عرفتم من هم؟ اولئك الشبان والمراهقين المصريين الذين جاؤوا من بؤر البؤس، من الأحياء الفقيرة والعشوائيات التي تعج بها المدينة المكتظة. معدمون اكثر من العدم نفسه.
في شارع محمد محمود، يتحلق بعضهم حول نار صغيرة تحت شجرة قرب مدرسة “الليسيه” الفرنسية التي أحرقت في صدامات الخميس 22 نوفمبر. ينام بعضهم على الأرض ويسند بعضهم ظهره الى الجدار. ولأن الثورات تبتكر مسمياتها وترتجل، فقد عمد شباب الميدان الى تغيير مسمى هذا الشارع الذي يخلد رجل أمن من العهد الملكي الى اسم جديد: “عيون الحرية” وعلقوا اللوحة الزرقاء التي تدل على الإسم الجديد وسط جداريات تذكرنا ببيروت وهي تقتتل زمناً في حربها الأهلية. النوافذ المهشمة في جدران كالحة ومبان متهالكة وآثار الدخان الأسود يطل من حوافها شاهداً على معركة جرت والحجارة المكومة قرب الجدران وفي الشارع وسيارة محترقة تتوسط زقاقاً متفرعاً عن هذا الشارع أبقيت في مكانها مثل المتراس. ثمة تضاد بين مشاهد الشوارع المحيطة بالتحرير وصور الذاكرة التي تحفظ لوسط البلد شيئاً من أبهة وعظمة ولت.
أقول لمرافقي الناشط المخضرم إيمان يحي: “هؤلاء ليس لديهم ما يخسرونه”، فيرد علي بصوت مجرع بأسى من يتوقع الأسوأ: “جاؤوا ليموتوا”. نصل الى الجدار الحاجز في هذا الشارع، فيسألني صديق مصري آخر عبر “تويتر” عن جولتي في الميدان، فأنقل له جواب إيمان يحي له على عجل: “رأيت شبانا جاؤوا ليموتوا” فيأتي الرد سريعاً: “هذا خيارهم.. وقد يكون هذا هو الثمن المطلوب”. هل يتعين ان يدفع المصريون هذا الثمن حقاً؟ الشباب يحتشدون في الميدان مجدداً والصور تجدد مشاهد 25 يناير والإرهاصات تتجمع من كل الجهات.
في فيلم “لورنس العرب”، وبعد دخول الجيش العربي الى دمشق، يواسي الملك فيصل الأول الضابط الشاب لورنس بعد ان قرر الجنرال اللنبي اعفاؤه من الخدمة: “الحرب للشباب لذا فهي تحمل كل فضائل الشباب، أما السلام فيصنعه الكبار لذا فهو يحمل كل رذائل كبار السن”. يبدو ما جرى في مصر بعد الاطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك ترجمة حرفية لكلام الملك المحنك الغائر في الذاكرة. فالثورة حملت فضائل الشبان الذين أشعلوها وقدموا قرابينها، لكن التوافقات اللاحقة حملت رذائل كبار السن الميالين للتسويات، ومن الواضح ان التسويات شابها كثير من الرذائل.
في قلب القاهرة، تدور عملية جراحية أقرب لعملية “قلب مفتوح” مثلما أسماها الصحافي المخضرم يسري فودة، والأمكنة تفصح عن معنى بصري للثورة: الشبان يحتشدون في قلب القاهرة بمبانيه الهرمة العتيقة رافضين كل سلطة وأبوية من طبقة سياسية تبدو بنظرهم مثل مباني وسط البلد التي لم تتغير بكل تاريخها الطويل. دم جديد يتدفق في شرايين قلب القاهرة الهَرِم والمتعب الذي مازال يعاند في تقبل هذا الدم إلا مسفوحاً.
تخرج من الميدان وترسل تغريدة أخيرة تنهي بها حوارا متشائما حول عنف متوقع يلوح في الأفق، عنف المصريين الذي يشبه غضبهم المزلزل: “أتمنى أن ينتصر أفضل ما في المصريين”.
[1] مازال آباؤهم ينفقون عليهم. اشارة استصغار تربط ثورتهم بكل ما يتسم به الصغار من فوضى وجهل.
[2] راجع: “الشباب والثورة”، سمير العيطة، إفتتاحية لوموند ديبلوماتيك، يوليو/تموز 2012.