محمد فاضل العبيدلي
اذا كنت تلعب الشطرنج وقام خصمك بتحريك واحدة او اثنتين من قطعه الخطرة الى ملعبك، سيتحول تفكيرك حتماً الى التركيز على مواجهة هذا التحدي الطارئ والتخلص من قطع خصمك الخطرة خارج مساحتك على رقعة الشطرنج. حسنا، لقد كان سيناريو ازمة الصواريخ الكوبية عام 1962 شبيهاً لهذا الوضع.
قبل نحو خمسين عاماً، ردد العالم بأسره ان الولايات المتحدة كانت المنتصر في أزمة الصواريخ الكوبية حيث انتهت الأزمة بسحب الروس لصواريخهم من كوبا. لقد كان ذلك هو الرأي السائد، لكن الحقائق المخفية تشير الى منتصر آخر.
ان سياق الأزمة قد يقترح انها كانت أكثر من مجرد مواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (وقتذاك) لكنها مثلت ذروة لقصة طويلة من مواجهات الحرب الباردة. ان الطريق نحو الازمة بدأ مبكراً ولم تكن غزوة خليج الخنازير الفاشلة في ابريل/نيسان 1962 بدايته لكنها كانت تصعيداً باتجاه الوصول الى أزمة الصواريخ في أكتوبر/تشرين الأول 1962.
في العام 1958، قامت الولايات المتحدة بنشر صواريخ نووية في بريطانيا وفي العام 1961 قامت بنشر صواريخ “جوبتير” النووية في إيطاليا وتركيا. بخطوات كهذه، فانه بات بمقدور الأميركيين ضرب العاصمة الروسية موسكو بحوالي 100 صاروخ نووي على الأقل. ومع نشر هذه الصواريخ قريبا من حدود الاتحاد السوفيتي، شعر السوفييت بأنهم مهددون، فقطع الشطرنج الأميركية الخطرة وصلت الى ساحتهم الخلفية.
على هذا النحو بدأ السوفييت هجومهم المضاد في العام 1958. فحسب ضابط الاستخبارات البريطاني السابق بيتر رايت مؤلف كتاب “صائد الجواسيس“، فان الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف سأل رئيس جهاز الاستخبارات الروسي “كي جي بي” المعين حديثاً[1] سؤالا وحيداً: “كيف يمكننا أن نهزم الغرب بدون حرب؟”. الآن بتنا نعرف ان جواب ذلك السؤال قد يكون الخطوة الأولى نحو أزمة الصواريخ الكوبية التي جرت بعد أربعة أعوام.
وحسب رايت أيضاً، فان الاستخبارات السوفيتية أطلقت ما أسماه “خطة تضليل استراتيجي” وإن أحد أهم أدوات/أسلحة هذه الخطة كان المنشقين. وكما يشرح في كتابه ذاك، فان “المنشقين [الروس] أخذوا يتدفقون على الغرب من قلب آلة الاستخبارات الروسية منذ بداية العام 1960”.
ومن بين أهداف عدة لخطة التضليل، كانت الصواريخ البالستية مثلما يشير رايت الذي شرح بأن الروس “كانوا يريدوننا ان نصدق انهم متخلفون عن الغرب في تكنلوجيا تسارع الصواريخ” مشدداً على ان هذه “كانت الرسالة التي كان المنشقون المزيفون يبلغونها دوماً لأجهزة الاستخبارات الأميركية (سي. آي. أيه وإف. بي. آي) والبريطانية (إم آي 5 وإم آي 6)”.
وبينما كان المنشقون الروس يقومون بعملهم، فإن الاميركيين لم يوقفوا محاولاتهم للإطاحة بالرئيس الكوبي فيدل كاسترو والتي كان آخرها غزوة “خليج الخنازير” التي تحولت الى كارثة حقيقية لإدارة الرئيس الأميركي جون إف كنيدي في أغسطس/آب 1962. ولم يلبث الروس بعد فشل الغزو بقليل، ان قاموا بنشر صواريخهم سراً في كوبا. عندما رصد الاميركيون تلك الصواريخ يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول، فإنهم في الحقيقة بلعوا الطعم، أي صدقوا الرسالة التي كان يرددها المنشقون الروس.
لقد كانت الصواريخ التي نشرها الروس في كوبا متوسطة المدى من طراز “سكود” ولم تكن صواريخ بالستية بعيدة المدى وهي حقيقة لم تكن لتقود إلا الى تصديق ما كان يردده المنشقون لسنوات مضت حول ما يتعلق بتخلف الاتحاد السوفيتي في تكنلوجيا الصواريخ ومداها.
هكذا، وصلت قطع الشطرنج الروسية الخطرة الى الحديقة الخلفية لأميركا تماما مثلما فعلت اميركا بنشرها صواريخ نووية في بريطانيا (1958) وإيطاليا وتركيا (1961). ما جرى لاحقاً بات معروفاً حيث حبس العالم أنفاسه لمدة أسبوعين بينما كان الاميركيون والروس غارقون في رقصة موت. كانت أصعب مفاوضات في التاريخ وانتهت الى الصفقة التالية: سحب الروس لصواريخهم من كوبا. لكن الجزء المتمم وغير المعلن من الصفقة قضى بأن يقوم الاميركيون أيضاً بسحب صواريخ “جوبتير” وصواريخ “ثور” من تركيا وإيطاليا. أكثر من هذا، تعهد الاميركيون بعدم محاولة إطاحة نظام كاسترو في كوبا.
إذاً، من كان المنتصر في تلك المواجهة؟ كاسترو ونظامه مازال موجودا بعد خمسين عاماً من تلك المواجهة وكان هذا احد اهداف السوفييت في ذلك الحين. أما الهدف الثاني فلقد كان اقناع الغرب ان الروس [وقتذاك] كانوا متخلفين عن الغرب في تكنلوجيا الصواريخ. وحسب بيتر رايت من جديد، فإن هذه القناعة التي شكلها الروس لدى الغرب هي التي خلقت مناخاً دولياً قاد الى الشروع في مفاوضات الحد من التسلح التي اثمرت معاهدة “ستارت – START”.
مترجما عن غلف نيوز – 22 أكتوبر / تشرين الأول 2012. رابط المقال الأصلي: https://bit.ly/3C6wKza
[1] ألكسندر شيلبين (1918-1994) الذي تولى رئاسة جهاز “كي جي بي” من ديسمبر/كانون الاول 1958 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني 1961. كان عضوا في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي وبقي يملك نفوذا على جهاز الاستخبارات حتى العام 1967.