محمد فاضل
إن كان صحيحاً أن الإبداع الأدبي يدور حول قصّة واحدة للكاتب وكلّ ما بعدها تنويعات عليها، فإن كلّ النتاج الغزير للروائي المصري نجيب محفوظ منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتّى العام 2004، يدور حول قصّة واحدة: “الحارة المصرية”.
الحارة التي تحكمها ثلاثية “السيد المسيطر” و”الأهالي المغلوب على أمرهم” وأخيراً “الفتوات” أداة السيطرة بيد سيد الحارة. الأسياد والممسكين بالسلطة في حارات محفوظ على الدوام، هم أولئك المتحدّرين من عائلات “نبيلة” أو تدعي النبل، تهيمن على غالبيةٍ من الشعب الذي يبلغ به البؤس والتواضع حدّاً يتحوّل معه إلى مقابلٍ مزري في الغالب لكلّ ما تعيشه طبقة أسياده المسيطرين.
أكان هؤلاء الحكام، أسياد حارة، أم شيوخ طريقة (حكاية بلا بداية ولا نهاية) أو ممسكين بالاوقاف (أولاد حارتنا)، أو مجرد فتوات في روايات لا تحصى، فإن افرادها يعيشون في قصور، حياتهم منعّمة، ممسكون بثروات مغتصبة وغالباً غارقون في الملذّات. وثمّة غطاء يعمل مثل مبرّر لشرعية هؤلاء الأسياد رغم كلّ البؤس الذي يحياه رعاياهم من أهل الحارة، أو من مريدي الطريقة أو صغار الموظفين (في عهد الجمهورية): المنبت الطبقي، أو المكانة الاجتماعية أو محض التسلّط بالقوّة.
اللجوء للـ”الفتوات” في إخضاع أهل الحارة، مؤشّر بليغ على المشكلة الأصلية أو محور الصراع في الحارة: “شرعية هؤلاء الأسياد وهيمنتهم”. فأسياد حارات محفوظ، لم يرتقِ أحد منهم إلى سدة السلطة بشكلٍ شرعيّ، بل بطريقةٍ مشكوكٍ فيها على الدوام أو تحت وطأة ظرفٍ قاهر. وعلى الدوام هناك شرفاء محيّدون (ضمير أخرس) [1]، غائبون في أشكال من المنافي، الاختياريّة أو القسرية جرّاء إهانة من فتوة أهدرت الكرامة إلى حد العجز.
محور الصراع لا يتغيّر كثيراً: ثروة مغتصبة بيد قلّة، كرامة مهدورة بجبروت الفتوات، الذي يصيغ الحياة اليومية للناس في شكلٍ مظالم يومية لا تتوقّف تمسّ كلّ فردٍ في الحارة. الحياة في حارات نجيب محفوظ محفوفة بالخطر على الدوام ويبقى الأمان (حتّى النسبي منه) معلّقاً دوماً بمهادنة سيّد الحارة وفتواتها، لكن دون ضمانٍ أكيد، فأسياد الحارة وفتواتها ليسوا بشراً أسوياء، بل هم مقابل للسويّة المنحرفة والدوافع الإجرامية التي تبدو فطريّة أحياناً.
أمّا المخدّرات و”الغرز”، فإنها خيطٌ متصل لردّة فعل المغلوب على أمرهم حيال البؤس الذي يحيونه، وتبدو رمزيتها عابرة للأزمان في تواصل مدهش حتّى أيامنا هذه. اللافت إلى حد المأساة، سيبقى هو ذلك القانون غير المكتوب الذي صاغه محفوظ لحاراته. فهو قانونٌ متجدّد في كلّ العهود، وصولاً إلى حضورٍ شديد الكثافة في المشهد المصري الراهن.. في ذورة الانتفاضة المصرية في 2011، يطلّ الفتوات والبلطجية من جديد ليصبحوا أحد ادوات المقاومة لنظامٍ وطبقةٍ سياسيّة مهيمنة موشكة على الانهيار.
يطلّ فتوات وبلطجية الألفية الثالثة للميلاد تماماً في نفس اللحظات التي يطلّون فيها في الحارة المصرية لدى محفوظ: بأوامر من السيد. في النسخة الحديثة: بأمرة أجهزة أمنية وبأمرة حزبٍ حاكمٍ هو المقابل المكثّف لتلك الطبقة من الأسياد التي كتب عنها محفوظ في رواياته: منعّمة، مترفة، تدّعي النبل، تخفي تواضع منابتها الطبقيّة وراء مظاهر الثراء الفاحش المتأتّي من الفساد وكلّ ما هو غير شرعي.
وبتطابق مدهشٍ في تفاصيله، يقابل الاحتجاج والتمرّد في كلا الحالتين، بردّ فعلٍ مبالغٍ في قسوته من قبل فتوات السيد، تماماً مثلما اعتادت أجهزة أمن النظام السابق إطلاق “البلطجية” على تظاهرات المعارضة وتجمعاتها، في الانتخابات أو التظاهرات ضدّ التعذيب أو غيرها من مظاهر الانحراف والفساد. تنكيل الفتوات بأهل الحارة ممّن يبدون بادرة احتجاج قولاً أو فعلاً، تحوّلت إلى فعل تعذيب منهجيّ يستدعي إلى الذهن تلك الصورة المتكرّرة لإرهاب الفتوات في روايات محفوظ: تنكيل بأفراد لترهيب باقي الاهالي. وكلّما تصاعدت نبرة الاحتجاج (في نسخه المعاصرة) وجرأته، يتصاعد التنكيل إلى مدى بالغ القسوة والفظاظة بالمحتجّين دون تفرقة وبجرعات عالية من الوقاحة: فالمشاهد كانت تتمّ أمام شاشات التلفزة. تماماً مثلما كان تنكيل الفتوات يتمّ علناً في أزقة الحارة لكي يرى الرجال في المقاهي والنساء من وراء الشبابيك ما يجري وتصل رسالة الخوف.
إنه قانونٌ غير مكتوب اكتوى به المصريون عهوداً طويلة. وانتفاضات أهل الحارة ضد الفتوات وأسيادهم، هي نفسها التي تطلّ اليوم بمشهدٍ أكثر شمولاً رغم فوارق الزمن والمقارنات. هكذا، تتجدّد المفردات من عصر الفتوات إلى الالفية الثالثة للميلاد، لكن القانون غير المكتوب هو نفسه الذي يحكم سلوك الأسياد والأهالي والبلطجية.
ورغم فرادة مشهد الثورة المصرية، فإن محفوظ كان حاضراً بقوة فيها لأنّه أكثر من فهم الروح المصرية الصميمة في كلّ تمثلاتها، من طابع الشظف والنفسية المقهورة والصبر إلى سلاح المصريين السري في كلّ العصور: وهو السخرية.
المشهد المتمم لهذه الروح وقوانينها غير المكتوبة، يأتي من شعر ذلك المصري الآخر، الممثّل النموذجي لخاصيّة التمرّد النبيل في الروح المصرية… أحمد فؤاد نجم. جلّ أغانيه تتجدّد [2] الآن في خضمّ ثورة الجيل الجديد من المصريين، بل إن التأمّل سيقودنا حتّى إلى مصري ملهمٍ آخر هو سيد درويش. فمن سخريته اللاذعة في عشرينات القرن الماضي، تتداعى أغنيته الشهيرة “شد الحزام على وسطك وغيره ما يفيدك” [3]. يسخر شطرٌ من الأغنية من قطع التليفونات والتليغرافات، بما يكفي لتذكيرنا بقطع خدمة الانترنت والهواتف النقالة في الثورة المصرية في 2011. ردّة فعلٍ لا تتغيّر لطبقات حاكمة تتعاقب، وهي تتمثل هذا القانون غير المكتوب بكلّ حذافيره.
ردّة فعل ستقودنا حتماً إلى تلك الخاصية التي يتميّز بها المصريون: محافظون ولا يميلون للتغيير. لهذا يوصف المصريون دوماً بأنهم شعب صبور وثوراته قليلة، لكنّ غضبه مزلزل.
________________________
[1] ابرز مثال هو الشيخ “تغلب الصناديقي” في رواية “حكاية بلا بداية ولا نهاية“، وعلى نحو متكرر تبرز دوما مثل هذه الشخصيات في البناء النموذجي للحارة المصرية. ففي كل أزمنة رواية “أولاد حارتنا” ثمة شخصية لها كلمة مسموعة حتى لدى السادة، وغالبا من كبار السن.
[2] في ذروة اعتصام ميدان التحرير، كان هناك رجل خمسيني يمسك بدف مرددا الأغنية الشهيرة للشيخ إمام التي كتبها نجم “بقرة حاحا” العائدة للسبعينات من القرن الماضي. كما غنتها الفنانة عزة بلبع في الميدان ايضا. لقد كان هذا اكثر من مشهد رمزي، فاستعادة اغنيات الشيخ إمام ونجم، كانت تقليدا مرافقا لكل مظاهر الاحتجاج في مصر على مدى ثلاثة عقود ماضية، ابعد من هذا فهي رائجة جدا في اوساط الجيل الجديد من المصريين.
[3] كتب تلك الأغنية (لحن الشيالين) بديع خيري ولحنها سيد درويش عام 1919 في ذورة ثورة ذلك العام بزعامة سعد زغلول. الاغنية مثل سائر اغنيات درويش يعاد غناؤها (لتفردها الابداعي) على ايدي فنانين كثر آخرهم استاذة الموسيقى الفنانة اللبنانية ريما خشيش (البوم: فلك – 2008).