نقوش السجادة الايرانية الجديدة Previous item هواجس الهوية تخيّم على دول... Next item "كـانَ" وأختهـا "الآنَ"

نقوش السجادة الايرانية الجديدة

في العام 1996، شاهد الإيرانيون للمرة الأولى امرأة ترتدي حجابا ملونا، كان ذاك في فيلم “كبه -Gabbeh” عن حائكي السجاد الرحل للمخرج الإيراني محسن مخملباف. يبدو الحجاب الملون لبطلة الفيلم هو الرسالة الضمنية والجوهرية لذلك الشريط الجميل. وفي العام 2000، قال لي محسن في حديث جمعنا في المنامة عن ذلك الحجاب: “أردت أن أقول للإيرانيين من خلال الحجاب الملون أن الحياة مليئة بالألوان وليست اسوداً وأبيضاً فقط”.

يبدو أن الإيرانيين التقطوا الرسالة. ففي العام التالي 1997، اجترح الإيرانيون اختراقاً تاريخياً عندما صوتوا بكثافة لرجل دين تسبق اسمه كلمة “الإصلاحي” هو سيد محمد خاتمي. وما أن شاع الحديث عن الإصلاحات في إيران، إلا وظهر الحجاب الملون على رؤوس الإيرانيات، بل بالغن بإظهار خصلات شعرهن قليلا. كان ذلك رمزاً بسيطاً يمكن أن تلتقطه العين في الشارع يختزل  جملة من الإرهاصات التي أثارها فوز خاتمي: مطالبات وعرائض من المثقفين تنادي بإصلاحات، جدل دخل فيه حتى رجال الدين محوره ما تعبر عنها الأجيال الأصغر من الإيرانيين من رغبة في التغيير. لكن الإصلاح ظل مفردة يكتنفها الغموض لأنها مفردة كانت تعبر عن مزيج من الرغبة في التحرر من الضوابط الصارمة للحياة اليومية في أبسط إشكالها إلى سقف أعلى لحرية التعبير. أخطر الإرهاصات كانت تدور في ساحة الصحافة: صحف جديدة تنشأ وتغلق وكتاب باتوا يتجرأون على مناقشة ما أعتبر لسنوات طويلة من المحرمات.

لكن ردة الفعل كانت فورية ومباشرة بل إنها انطوت على شيء من الهستيريا: استنفرت الشرطة الدينية لمواجهة كل ما تعتبره مظاهر انحراف جديدة في الشارع الإيراني سواء تعلق الأمر بخصلات شعور الفتيات الظاهرة من تحت الحجاب أو زجر الشبان والفتيات الذين يسيرون متشابكي الأيدي. أبعد من هذا، وتحت مظلة الدعوة التي أطلقها خاتمي لحوار الحضارات، راح أبناء الثورة النجباء من الطلاب الذين احتلوا السفارة الاميركية عام 1979 يظهرون بوجه جديد ينادي بالحوار مع أعداء الأمس في طور من النقد الذاتي جعلهم في قلب الحركة المطالبة بالإصلاح. تلك مراجعة قوبلت بلفتة بليغة عندما عين خاتمي احد أولئك الطلاب الثوريين وهي معصومة ابتكار نائباً لرئيس الجمهورية لشؤون البيئة. قد لا يبدو المنصب ذو أهمية، عدا أن مدلولاته بليغة: لقد مضى عهد اختطاف الرهائن وجاء أوان الحوار، إيران جديدة كانت تتشكل، ليست العدو الغامض والملتبس في أذهان الغرب، بل أخرى تسعى للإنفتاح بثقة.

أما المخرجون الطليعيون في السينما الإيرانية، فقد خلبوا ألباب العالم بأفلامهم ذات الحبكات البسيطة والجماليات الآسرة لكن المضمنة أكثر الرسائل بلاغة: الحرية، التحرر من الرقابة الصارمة.

لكن الخوف من إرهاصات التغيير عبر عن نفسهبشكل أكثر درامية مع حملة الاغتيالات التي تعرض لها عدد من المثقفين الإيرانيين. وبدا أن عهد خاتمي الذي أثار موجة استبشار في العالم بتوجهات جديدة في إيران يسير في خطين متلازمين لكن على اشد درجة من التناقض: ازدهار ثقافي وحراك مدني تدفعه آمال بالتغيير، لكن انقسام أخذ يتعمق حتى بلغ أولى ذرواته في صدامات جامعة طهران عام 1999 ومن جديد في 2003.

وقتذاك، كان واضحاأن ثمة من لا يريد سوابق أولى كي لا تكر السبحة، فالتحرر من ضوابط السلوك في الشارع، وسقف أعلى لحرية التعبير لن يقود إلا إلى مسار ستصبح فيه أسس الجمهورية الإسلامية موضع التساؤل. لقد حدث هذا فعلا مع انتشار الصحف الجديدة وأصوات بدأت تتساءل عن سبب تركز السلطات في يد المرشد وسطوة مجلس صيانة الدستور. وفي بلد تحفظ ذاكرته الجماعية وتاريخه حقيقة راسخة هي أن أبرز حركة إصلاح شهدها عام 1906 ارتبطت عضوياً بالصحافة، فان الأمر يقض المضاجع.. الصورة متماثلة: ازدهرت الصحف (اكثر من 300 صحيفة) ضمن إرهاصات”ثورة المشروطية” (1906 – 1908) وكان قادتها يوزعونها بأنفسهم في شوارع طهران. المفارقة التاريخية هنا أن كلا حركتي الإصلاح، القديمة وتلك التي جرت في عهد خاتمي وجدتا نفسيهما على تماس مع حقيقة واحدة: السلطات المطلقة للملك القاجاري وفي النسخة الثانية للمرشد الأعلى. وفي تفسير مترفق كان يتردد همسا، قيل أن خاتمي لم يكن يسعى إلا إلى قليل من التوازن أمام سلطات المرشد.

كان عهد خاتمي سابقة أولى لكنه لم يدفع الإيرانيين إلا إلى الانقسام العميق، ومن الواضح أن ما جرى في الانتخابات الأخيرة والأرقام المبالغ فيها لنصر الرئيس محمود احمدي نجاد ليست سوى تعبير عن رغبة دفينة لكنها قوية في عدم السماح بتكرار تجربة عهد خاتمي.

لا مجال للين أمام القيادة الإيرانية في هذا الوقت، وأيا كان الموضوع المطروح سواء داخلياً أو خارجياً فليس هذا هو وقت اللين والترفق. داخلياً ستتكرر المطالبات المكتومة بالتغيير على جميع المستويات وستصل حتما إلى التماس مع أسس الجمهورية الإسلامية. خارجياً، ليس ثمة هامش للتسويات إذا ما تعلق الأمر بالملف النووي مثلا، فالتسوية هنا تقرب من إملاء الشروط خصوصاً إذا ما كان هناك سيف مشهر هو التهديدات الإسرائيلية.  أمر يثبت الغربيون للمرة الألف بغباء أنهم يجهلونه تماماً عن الإيرانيين: لا يقبلون الاملاءات والضغوط أيا كان النظام الذي يحكمهم. وبإندفاع الغربيين الغبي نحو مناصرة الاحتجاجات، فهم لا يفعلون سوى دق مسمار نعشها.

لن يسقط النظام لأن أفق الاحتجاجات محكوم بشكل لا يمكن أن يتجاوزه بطل هذه الاحتجاجات مير حسين موسوي أو القادة الآخرين. فموسوي سيذهب بالاحتجاج إلى مداه الأقصى لكن حتى حد فاصل هو إعادة الانتخابات وليس هز أركان النظام مهما افتتن الغربيون بصوره مع زوجته. لكن المؤكد أن إيران لن تعود كما كانت، أن إرهاصات التغيير تتبلور، فايران مثل أفلام سينمائييها الطليعيين ليس فيها أسود وأبيض فقط بل ألوان قد تغشي البصر.

النساء من حائكي السجاد الرحل (مثلما صورهن مخملباف أيضا) يضفن رسوماً جديدة للسجادة مع كل منظر أوحدث يطرأ في الجوار مثل الطيور العابرة وغيرها بحيث أن السجادة بصورها المتجددة تصبح أقرب للسيرة. من الواضح اليوم أن السجادة الإيرانية ليست بنفس نقوشها التي تعرفونها منذ 30 عاما.

 

 

 

صحيفة البيان- 25 يونيو/حزيران 2009