أوهام الحكومة وأوهامنا Previous item دزرجنيسكي حي يرزق Next item هواجس الهوية تخيّم على دول...

أوهام الحكومة وأوهامنا

محمد فاضل العبيدلي

قبل أعوام لم يكن لدينا برلمان وكان الحديث عن صناديق الاقتراع أقرب للتجديف. وقبل بضعة أعوام لم يكن بإمكاننا أن نتحدث جهارا وعلانية عن الفساد. وقبل أعوام قليلة خلت لم يكن بإمكاننا أن نعلن رأينا عن هذا المشروع الحكومي أو ذاك، ولم يكن بإمكاننا أن نقول إن هذا خطأ وهذا صحيح.

قبل أعوام، لم يكن بإمكاننا أن نتجمع رافعين اللافتات والهتافات معتصمين أو متظاهرين لهذه القضية أو تلك المظلمة. وقبل أعوام لم يكن أحد ليفكر بإصدار صحيفة وبات لدينا أربع يوميات واثنتان في الطريق.

وقبل أعوام، كان رجالنا واخوتنا واخواتنا وأبنائهم موزعين في المنافي في كل بلاد العالم. وقبل أعوام كان هناك آلاف ممن ولدوا على هذه الأرض وعاشوا فيها محرومين من وثيقة تدعى جواز السفر. وقبل أعوام، كان محرما علينا أن نكتب مفردة “البطالة”، بل كان مسئولو التحرير في الصحف يستجيبون لرغبة الحكومة التي عممت هذه المفردة: “باحثون عن عمل”.

وفجأة عندما أصبح الحديث ممكنا من دون خوف، اكتشفنا أن “الباحثين عن عمل” يشكلون ظاهرة تجمع عشرات الآلاف. واكتشفنا أن وراء هذه المشكلة مشكلة أخرى اسمها “مستويات المعيشة”. وظهرت لدينا مسميات جديدة: بيوت آيلة إلى السقوط، وموظفو دولة رسميون دخلوا خانة الفقر وشرائح اجتماعية واسعة تنهكها الديون والقروض وأن لا أحد يستطيع أن يحلم بتوفير دنانير إضافية في ظل هذا التضخم وشراهة لا حد لها للاستهلاك.

واكتشفنا بعد حين أن سوق العمل بحاجة إلى إصلاح شامل بل والاقتصاد أيضا. وجاء من يقول لنا إننا نحتاج إلى علاج شامل للاقتصاد والمناهج. أما الوزراء المخلدون في مناصبهم، فقد حل مكانهم الآن وزراء لا نحفظ أسماءهم لكثرة ما يتغيرون.

إذا كان هنا من عبرة فهي للحكومة. أولئك الذين يفترض أن يجعلوا حياتنا أفضل وفي تقدم مستمر. العبرة واضحة، فعليهم أن يكفوا عن أية أوهام بأن الأمور ستبقى على ما هي عليه أو أن بإمكانهم الابقاء على أوضاع قديمة كانت الحكومة فيها هي التي تخطط وتنفذ من دون حساب أو مراقبة أو من دون مشاركة من أحد في القرار… أن تكف عن أوهام أنها الأفضل وأنها التي تعرف مصلحة الناس أفضل منهم وأن تستخف بأي رأي آخر يخالفها ولا ترى في كوادرها الا أفرادا منزهين عن الخطأ… أن تكف عن التلاعب بالمسميات واختراع مسميات تخفف وطأة أية مشكلة مثلما عودتنا عقودا طوالا مع البطالة أو الانشغال والاشتغال.

عليها أن تكف عن أوهام “الفزعات” كلما زادت الانتقادات لها. على الأقل عليهم أن يبلغوا الإعلام الرسمي بالكف عن استخدام هذه المفردة: الحكومة الرشيدة. من غير الجائز عقلا ومنطقا أن يصف إنسان نفسه أو مجموعة من الأفراد أنفسهم بأنهم رشيدون ويذكرون الناس بأنهم رشيدون والناس تفتفد للرشد. فالحكومة ليست سوى مجموعة من البشر، يخطئون ويصيبون وكل ما نتمناه هو أن يكون الصواب إلى جانبهم دوما فيما يتخذونه من قرارات وما يقومون به من أعمال تخص حياتنا وشئوننا كافة.

لكن العبرة ليست للحكومة فقط، فأمام أوهام الحكومة تنتصب أوهام أخرى في الشارع. أوهام الايديولوجيا والمجتمع الفاضل. الأوهام التي باتت تنتج لنا كل تلك الأفكار التي تريد ضبط حياة الناس بالمسطرة وبالدقيقة والثانية مثل ساعة سويسرية. لا تلبسوا هذا، لا تفعلوا هذا، لنقم الحواجز والعوازل، لنراقب الناس فيما يلبسون ويفعلون دوما، لننشئ جيوشا من المخبرين والوشاة الذين لا هم لهم سوى مراقبة الناس. الخلط المهلك دوما بين النصيحة وبين استخدام جهاز الدولة أداة للقسر. الخلط بين الفضيلة كقيمة ينهض بها البعض منا بالنصيحة والموعظة وبين القوة كجوهر للسلطة وتسخير الدولة وقوة القانون لتعميم قانون الاكراه والقسر. أي بعبارة أخرى: اكراه الناس وتجاوز عقولهم لأننا نعتقد أن العقل والحكمة ليسا متوافرين الا لنا وما الناس الا رعاع يتعين ضبطهم دوما. إن هذا أول ما يضرب في الصميم إنما يضرب مفهوم حرية الضمير والتفكير التي ثبتها دستورنا إذا كان ثمة من يتذكر مواد الدستور.

للأوهام وجه آخر، أوهام الطائفة وأوهام الفكر الاوحد، الفكر الاصح والحقيقة الواحدة. أوهام تروج لجنات يراد أن يقاد الناس اليها بالسلاسل… حذار من جنات الايديولوجيا والطوائف.

لا تتوقف الأوهام: نحن شعب مثقف وواع سياسيا ونؤمن بالديمقراطية. هذا وهم آخر والمشهد كله مليء بالخداع البصري. فلا وجود البرلمان ولا كثرة الجمعيات ولا كثرة الحديث في السياسة ولا المداومة على قراءة الصحف أو متابعة الفضائيات ولا كثرة قراءة الكتب ولا كثرة الندوات ولا كثرة المسيرات بإمكانها أن تصنع شعبا واعيا ومثقفا وديمقراطيا. الديمقراطية تزرع في الناس بالمثابرة والمراجعة المستمرة لأي شكل من أشكال الانحراف والمصارحات والمحاسبة. تربى عليها أجيال الصغار منذ نعومة أظفارهم. وإذا كنا نشك في أن الحكومة التي لم تعتد الديمقراطية لاتزال بحاجة إلى أن تتعلم، فنحن أولى من الحكومة بالتعلم لأن الديمقراطية تنبت من القاع ولا تهبط من السماء.

ماذا يريد الناس أكثر من أن يعيشوا بكرامة ويربوا أولادهم في جو آمن مطمئن وفي ظل الحرية؟ ماذا يريد الناس اكثر من المساواة في الحقوق والواجبات وأن ينتفي كل شكل من أشكال الظلم مهما كان صغيرا وأن يجهروا برأيهم بصراحة ومن دون خوف؟

لن يتزعزع الايمان بالتدرج والنمو الطبيعي، لكن حذار من وهم آخر: أن هناك فسحة للعب في الوقت الضائع. فيوما ما سنكتشف أن التاريخ بكل حوادثه الدراماتيكية يصنع بالأوهام أيضا، لكن ربما يكون الاوان قد فات.